فصل: الدليل العاشر: مذهب الصحابي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: علم أصول الفقه



.الدليل العاشر: مذهب الصحابي:

بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تصدى لإفتاء المسلمين والتشريع لهم جماعة من الصحابة، عرفوا بالفقه والعلم طول ملازمة الرسول وفهم القرآن وأحكامه، وقد صدرت عنهم عدة فتاوى في وقائع مختلفة، وعني بعض الرواة من التابعين وتابعي التابعين بروايتها وتدوينها، حتى أن منهم من كان يدونها من سنن الرسول، فهل هذه الفتاوى من المصادر التشريعية الملحقة بالنصوص بحيث أن المجتهد يجب عليه أن يرجع إليها قبل أن يلجأ إلى القياس؟ أو هي مجرد آراء إفرادية اجتهادية ليست حجة على المسلمين؟
وخلاصة القول في هذا الموضوع: أنه لا خلاف في أن قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والعقد يكون حجة على المسلمين، لأنه لابد أن يكون قاله عن سماع من الرسول، كقول عائشة رضي الله عنها: لا يمكث الحمل في بطن أمه أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل، فمثل هذا ليس مجالا للاجتهاد والرأي، فإذا صح فمصدره السماع من الرسول، وهو من السنة وإن كان في ظاهر الأمر من قول الصحابي.
ولا خلاف أيضا في أن قول الصحابي، الذي لم يعرف له مخالف من الصحابة يكون حجة على المسلمين، لأن اتفاقهم على حكم واقعة مع قرب عهدهم بالرسول، وعلمهم بأسرار التشريع واختلافهم في وقائع كثيرة غيرها دليل على استنادهم إلى دليل قاطع، وهذا لما اتفقوا على توريث الجدات السدس كان حكما واجبا اتّباعه، ولم يعرف فيه خلاف بين المسلمين.
وإنما الخلاف في قول الصحابي الصادر عن رأيه واجتهاده، ولم تتفق عليه كلمة الصحابة.
فقال أبو حنيفة ومن وافقوه: إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله، أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى غيره. فالإمام أبو حنيفة لا يرى رأي واحد معين منهم حجة، فله أن يأخذ برأي من شاء منهم، ولكنه لا يسوغ مخالفة آرائهم جميعا، فهو لا يسوغ في القياس في الواقعة ما دام للصحابة في حكم الواقعة فيها بأي قول من أقوالهم. ولعل من وجهته أن اختلاف الصحابة في حكم الواقعة إلى قولين إجماع منهم على أنه لا ثالث، واختلافهم إلى ثلاثة أقوال إجماع منهم على أنه لا رابع، فالخروج من أقوالهم جميعا خروج عن إجماعهم.
وظاهر كلام الإمام الشافعي أنه لا يرى رأي واحد معين منهم حجة، ويسوغ مخالفة آرائهم جميعا، والاجتهاد في الاستنباط رأى آخر، لأنها مجموعة آراء اجتهادية فردية لغير معصومين، وكما جاز للصحابي أن يخالف الصحابي يجوز لمن بعدهما من المجتهدين أن يخالفهما، ولهذا قال الشافعي: لا يجوز الحكم أو الإفتاء إلا من جهة خبر لازم، وذلك الكتاب أو السنة، أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه، أو قياس على بعض هذا.

.القسم الثاني: في الأحكام الشرعية:

مباحث الأحكام في علم أصول الفقه أربعة:
1- الحاكم: وهو من صدر عنه الحكم.
2- والحكم: وهو ما صدر من الحاكم دالا على إرادته في فعل المكلف.
3- والمحكوم فيه: وهو فعل المكلف الذي تعلق الحكم به.
4- والمحكوم عليه: وهو المكلف الذي تعلق الحكم بفعله.

.1- الحاكم:

1- من هو؟
2- بم يعرف حكمه؟
لا خلاف بين علماء المسلمين، في أن مصدر الأحكام الشرعية لجميع أفعال المكلفين هو الله سبحانه، سواء أظهر حكمه في فعل المكلف مباشرة من النصوص التي أوحي بها إلى رسوله، أم اهتدى المجتهدون إلى حكمه في فعل المكلف، بواسطة الدلائل والأمارات التي شرعها لاستنباط أحكامه، ولهذا اتفقت كلمتهم على تعريف الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبا أو تخييرا أو وضعا، واشتهر من أصولهم لا حكم إلا لله، وهذا مصداق قوله سبحانه: {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام: 57].
وإنما اختلف علماء المسلمين في أن أحكام الله في أفعال المكلفين، هل يمكن للعقل أن يعرفها بنفسه من غير وساطة رسل الله وكتبه، بحيث أن من لم تبلغه دعوة رسول يستطيع أن يعرف حكم الله في أفعاله بعقله أم لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسل الله وكتبه؟
فلا خلاف في أن الحاكم هو الله، وإنما الخلاف فيما يعرف به حكم الله.
ولعلماء المسلمين في هذا الخلاف مذاهب ثلاثة:
1- مذهب الأشاعرة:
أتباع أبي الحسن الأشعري: وهو أنه: لا يمكن للعقل أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين إلا بواسطة رسله وكتبه؛ لأن العقول تختلف اختلافا بيّنا في الأفعال، فبعض العقول يستحسن بعض الأفعال، وبعضها يستقبحها، بل عقل الشخص الواحد يختلف في الفعل الواحد، وكثيرا ما يغلب الهوى على العقل فيكون التحسين أو التقبيح بناء على الهوى، فعلى هذا لا يمكن أن يقال ما رآه العقل حسنا فهو حسن عند الله، ومطلوب لله فعله، ويثاب عليه من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو عند الله، ومطلوب لله تركه، ويعاقب من الله فاعله.
وأساس هذا المذهب: أن الحسن من أفعال المكلفين هو ما دل الشارع على أنه حسن بإباحته أو طلب فعله، والقبح هو ما دل الشارع على أنه قبيح يطلبه تركه، وليس الحسن ما رآه العقل حسنا ولا القبيح ما رآه العقل قبيحا، فمقياس الحسن والقبح في هذا المذهب هو الشرع لا العقل، وهذا يتفق وما ذهب إليه بعض علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو القانون، فما أوجبه القانون أو أباحه فهو خير، وما حظره فهو شر.
وعلى هذا المذهب لا يكون الإنسان مكلفا من الله بفعل شيء، أو ترك شيء إلا إذا بلغته دعوة الرسول وما شرعه الله، ولا يثاب أحد على فعل شيء ولا يعاقب على ترك أو فعل، إلا إذا علم من طريق رسل الله ما يجب عليه فعله وما يجب عليه تركه. فمن عاش في عزلة تامة بحيث لم تبلغه دعوة رسول ولا شرعه فه غير مكلف من الله بشيء ولا يستحق ثوابا ولا عقابا. وأهل الفترة- وهم من عاشوا من بعد موت رسول وقبل مبعث رسول- غير مكلفين بشيء ولا يستحقون ثوابا ولا عقابا. ويؤيد هذا المذهب قوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].
2- مذهب المعتزلة:
أتباع واصل بن عطاء: وهو أنه يمكن أن يعرف حكم الله في أفعال المكلفين بنفسه من غير وساطة رسله وكتبه، لأن كل فعل من أفعال المكلفين فيه صفات وله آثار تجعله ضارا أو نافعا، فيستطيع العقل بناء على صفات الفعل، وما يترتب عليه من نفع أو ضرر أن يحكم بأنه حسن أو قبيح، وحكم الله سبحانه على الأفعال هو على حسب ما تدركه العقول بمن نفعها أو ضررها، فهو سبحانه يطالب المكلفين بفعل ما فيه نفعهم حسب إدراك عقولهم؛ وبترك ما فيه ضررهم حسب إدراك عقولهم، فما رآه العقل حسنا فهو مطلوب لله ويثاب من الله فاعله، وما رآه العقل قبيحا فهو مطلوب لله تركه ويعاقب من الله فاعله.
وأساس هذا المذهب: أن الحسن من الأفعال ما رآه العقل حسنا لما فيه من نفع، والقبيح من الأفعال ما رآه العقل قبيحا لما فيه من ضرر، وأن أحكام الله في أفعال المكلفين هي على وفق ما تدركه عقولهم فيها من حسن أو قبح. وهذا المذهب يتفق وما ذهب إليه أكثر علماء الأخلاق من أن مقياس الخير والشر هو ما يدرك في الفعل من نفع أو ضرر لأكبر مجموعة من الناس يصل إليهم أثر الفعل.
وعلى هذا المذهب؛ فمن لم تبلغهم دعوة الرسل ولا شرائعهم فهم مكلفون من الله بفعل ما يهديهم عقلهم إلى أنه حسن ويثابون من الله على فعله، وبترك ما يهديهم عقلهم إلى أنه قبيح ويعاقبون من الله على فعله. وأصحاب هذا المذهب يؤيدونه بأنه لا يستطيع عاقل أن ينكر أن كل فعل فيه خواص وله آثار تجعله حسنا أو قبيحا، ومن الذي لا يدرك بعقله أن الشرك على النعمة والصدق والوفاء والأمانة كل منها حسن، وأن ضد كل منها قبيح. ولا يستطيع عاقل أن ينكر أن الله ما شرع أحكامه في أفعال المكلفين إلا بناء على ما فيها من نفع أو ضرر، ويقولون: إن من بلغتهم شرائع الله مكلفون من الله بما تقضي به هذه الشرائع ومن لم تبلغهم شرائع الله مكلفون من الله بما تهديهم إليه عقولهم، فعليهم أن يفعلوا ما تستحسنه عقولهم، وأن يتركوا ما تستقبحه عقولهم.
3- مذهب الماتريدية:
أتباع أبي منصور الماتريدي، وهذا المذهب وسط معتدل، وهو الراجح في رأيي؛ وخلاصته أن أفعال المكلفين فيها خواص ولها آثار تقتضي حسنها أو قبحها، وأن العقل بناء على هذه الخواص والآثار يستطيع الحكم بأن هذا الفعل حسن وهذا الفعل قبيح، وما رآه العقل السليم حسنا فهو حسن، وما رآه العقل السليم قبيحا فهو قبيح. ولكن لا يلزم أن تكون أحكام الله في أفعال المكلفين على وفق ما تدركه عقولنا فيها من حسن أو قبح، لأن العقول مهما نضجت قد تخطئ، ولأن بعض الأفعال مما تشتبه فيه العقول، فلا تلازم بين أحكام الله وما تدركه العقول، وعلى هذا لا سبيل إلى معرفة حكم الله إلا بواسطة رسله.
فهؤلاء وافقوا المعتزلة في أن حسن الأفعال وقبحها مما تدركه العقول بناء على ما تدركه من نفعها أو ضررها، وخالفوهم في أن حكم الله لابد أن يكون على وفق حكم العقل، وفي أن ما أدرك العقل حسنة فهو مطلوب لله فعله، وما أدرك العقل قبحه فهو مطلوب لله تركه.
ووافقوا الأشاعرة في أنه لا يعرف حكم الله إلا بواسطة رسله وكتبه، وخالفوهم في أن الحسن والقبح للأفعال شرعيان لا عقليان، وفي أن الفعل لا يكون حسنا إلا بطلب الله فعله، ولا يكون قبيحا إلا بطلب الله تركه. لأن هذا ظاهر البطلان، فإن أمهات الفضائل يدرك العقل حسنها لما فيها من نفع، وأمهات الرذائل يدرك العقل قبحها لما فيها من ضرر ولو لم يرد بهذا شرع.
وهذا الخلاف لا يترتب عليه اثر إلا بالنسبة لمن لم تبلغهم شرائع الرسل، وأما من بلغتهم شرائع الرسل فمقياس الحسن والقبح للأفعال بالنسبة لهم ما ورد في شريعتهم لا ما تدركه عقولهم بالاتفاق، فما أمر به الشارع فهو حسن ومطلوب فعله ويثاب فاعله، وما نهى عنه الشارع فهو قبيح ومطلوب تركه ويعاقب فاعله.

.2- الحكم:

1- تعريفه.
2- أنواعه.
3- أقسام كل نوع.

.1- تعريفه:

الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، طلباً أو تخييراً، أو وضعاً.
فقوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، هذا خطاب من الشارع متعلق بالإيفاء بالعقود طلبا لفعله. وقوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} [الحجرات: 11]، هذا خطاب من الشارع متعلق بالسخرية طلبا لتركها. وقوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، هذا خطاب من الشارع متعلق بأخذ الزوج بدلا من زوجته نظير تطليقها تخييرا فيه. وقول الرسول: «لا يرث القاتل» هذا خطاب من الشارع متعلق بالقتل وضعا له مانعا من الإرث.
فنفس النص الصادر من الشارع الدال على طلب أو تخيير أو وضع هو الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين، وهذا يوافق اصطلاح القضائيين الآن؛ فهم يريدون بالحكم نفس النص الذي يصدر من القاضي؛ ولهذا يقولون: منطق الحكم كذا يقولون: أجلت القضية للنطق بالحكم.
وأما الحكم الشرعي في اصطلاح الفقهاء: فهو الأثر الذي يقتضيه خطاب الشارع في الفعل، كالوجوب والحرمة والإباحة.
فقوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، يقتضى وجوب الإيفاء بالعقود.
فالنص نفسه هو الحكم في اصطلاح الأصوليين، ووجوب الإيفاء هو الحكم في اصطلاح الفقهاء. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} [الإسراء: 32]، هو الحكم في اصطلاح الأصوليين، وحرمة قربان الزنا هو الحكم في اصطلاح الفقهاء.
ولا يتوهّم متوهّم من تعريف الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين، بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، بأن الحكم الشرعي خاص بالنصوص لأنها هي الخطاب من الشارع وأنه لا يشمل الأدلة الشرعية الأخرى من إجماع أو قياس أو غيرها لأن سائر الأدلة الشرعية غير النصوص عند التحقيق تعود إلى النصوص، فهو في الحقيقة خطاب من الشارع ولكنه غير مباشر، فكل دليل شرعي تعلق بفعل من أفعال المكلفين، طلبا أو تخييرا أو وضعا فهو حكم شرعي في اصطلاح الأصوليين.